رحيل الأمير الإنسان محمد الفيصل آل سعود سيترك وجعا أليما، وغصة خانقة وفراغا كبيرا في قلوب محبيه الكثر في الداخل والخارج وسيكون مفجعا لكل الذين عرفوه أو تعاملوا معه من قريب أو بعيد.
وبالنسبة لي فإن فراقه يمثل فاجعة شخصية فقد عرفته عن قرب، وصادقته، وتوثقت علاقتي به خلال لقاءاتي معه سواء كان في منزله بمدينة جدة أو في أي مكان آخر.
وبالنسبة للذين عرفوه عن كثب وعاشروه فإن أي لقاء معه يثري المعرفة ويزيد حصيلة المعلومات وينير البصر والبصيرة.
ومنذ أن كان أول محافظ لتحلية المياه إلى أن قام بإنشاء البنوك الإسلامية ودار المال الإسلامي، كان محمد الفيصل شخصا يثير الاهتمام ويستقطب الإعجاب ويستدعي المتابعة والملاحظة في مشوار مليء بالتحديات والصعاب لكنه مشاه بكل ثقة واطمئنان.
وقد قابلت طوال حياتي المهنية والخاصة عددا كبيرا من القادة والشخصيات المرموقة وكان محمد الفيصل يقف شامخا وسامقا أمام أطولهم قامة وأعظمهم شأنا.
وكان الأمير الراحل، طيب الله ثراه، بالنسبة لي بطلا بكل ما في البطولة من معنى وهو يستحق الثناء، والإشادة، والفخر على كل ما قام به فهو قد كان رائدا في كثير من المشروعات التي بادر بالتفكير فيها وإنشائها ورعايتها حتى أصبحت كيانات شامخة يشار إليها بالبنان.
وكان رجلا جم التواضع، حلو المعشر، سمحا في التعامل ذا روح طيبة وقلب كبير وكان أميرا بكل معنى الكلمة في تعامله وحبه للبساطة والبسطاء، وقد كان لطيفا لا يتغير أو يتبدل أو يقطب وجهه حتى في أشد حالات الغضب وفي أوقات الشدة والكرب.
وكان محمد الفيصل رجلا واقعيا في مناقشاته مهما كانت طبيعة الموضوعات مثار النقاش سواء كانت مهمة أو تافهة كما كانت نظرته فاحصة وتقييمه متزنا ومنطقه معقولا.
ويمكن أن أقول بكل ثقة إن الأمير محمد الفيصل كان العقل المفكر وراء إنشاء البنوك الإسلامية التي ظل يتولاها بالعناية والرعاية حتى أصبحت حقيقة في وقت كان الكثيرون من الناس يعتقدون إن الاقتصاد الإسلامي لن تقوم له قائمة.
وذهب يرحمه الله وراء تحقيق حلمه إلى تركيا، ومصر والسودان وغيرها في وقت لم يكن فيه المناخ الاستثماري في أفضل حالاته خاصة عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد والصيرفة الإسلامية.
وكان كل هذا الذي قام به الأمير الراحل بمفرده يعتبر من المستحيلات بل والمعجزات خاصة وكان للإسلام، ولا يزال، أعداؤه حتى من بين المسلمين أنفسهم.
وكان يرحمه الله شديد الإيمان بجدوى الاقتصاد الإسلامي فقام بإنشاء مكاتبه وبنوكه في سويسرا لوكسمبورج وغيرها في ظروف غير مواتية وفي مناخ شديد العداء للإسلام والمسلمين لكن، محمد الفيصل، باللمعة الآسرة في عينيه والتي سأظل أذكرها دائما فعلها وفتح الباب أمام إنشاء البنوك والمصارف الإسلامية في العالم الآن لدرجة أن البنوك التقليدية في أمريكا وأوروبا فتحت لها منافذ إسلامية.
ولم يكن محمد الفيصل يحب المظاهر أو النفخة الكاذبة كما يقولون بل كان متواضعا وبسيطا في حياته وسلوكه.
وأذكر مرة أن كنت في مطار دبي أجلس مع رئيس تحرير مجلة البنوك الإسلامية الإنجليزية مشتاق باركر عندما هبطت طائرة خاصة خرج منها شخص «مرموق» تتبعه حاشية من أكثر من عشرين شخصا وسط مظاهر احتفالية واستعراض للسلطة والجاه.
وبعد نصف ساعة تقريبا هبطت طائرة الأمير محمد الفيصل فخرج منها وحده لا يرافقه غير سكرتيره الخاص.
وأذكر أنني كنت معه في بيته في جدة عندما قام من كرسيه ليرد على الهاتف وفي هذا الأثناء دخل رجل بسيط واحتل المقعد وأشار محمد الفيصل إلى مرافقيه بأن يتركوه في مكانه حتى لا يكسر خاطره وألا يقولوا له إن هذا كرسي الأمير، واختار مكانا آخر جلس فيه إلى نهاية المقابلة.
وكان محمد الفيصل يحترم كل الناس كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وكان يتعامل بنفس الروح الطيبة مع الذين يعرفهم من زمان أو الذين يراهم لأول مرة، وقد كنت محظوظا بمعرفتي به وقربي منه فهو من الرجال الذين يزيدك القرب منهم معرفة وثقافة وبالتالي يكسب حياتك ثراء وغنى.
ألا رحمك الله أبا عمرو وأسكنك فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.